إنه «الدخول». أوروبا عائدة إلى الأعمال بعد إجازتها الصيفية، ولكن هذا العام يبدو أشبه بالقفز إلى «دش» بارد. وما عليك سوى الاستماع إلى إيمانويل ماكرون. فالرئيس الفرنسي قال لوزرائه خلال اجتماعهم الرسمي الأول الأسبوع الماضي إن هناك نموذجاً جديداً في الأفق: إنها نهاية الوفرة في عالم خالٍ من الهموم.
إنه تصريح جاد صادر عن بلد البذخ نفسه. التاريخ الفرنسي يتميز بالفخامة، وروحه الوطنية تنشد العظمة في القيم التي تمثّلها ودور «قوة التوازن» – قوة الوساطة – الذي تسعى للعبه على الساحة الدولية. ثم إن الفخامة هي أيضاً مصدر حقيقي للمال بالنسبة للاقتصاد الفرنسي – إذ يستفيد القطاع من طلب استهلاكي نهم ومتزايد. كل هذا يتباين مع تصريحات ماكرون، التي وصفها المنتقدون بالفجة، والمتشائمة، بل وحتى بالانهزامية. غير أنه على الرغم من أن الرسالة لم تكن مستساغة، إلا أنها كانت مهمة. والحقيقة أن كلمات ماكرون إنما تتدارك فقط حقيقة ما تواجهه أوروبا. ذلك أن الحرب الروسية- الأوكرانية تعيث فساداً في أسواق الطاقة حالياً، والتضخم متفشٍ، والحكومات تسعى جاهدة إلى تقليص الطلب لتفادي التقنين والترشيد. نقيض الوفرة هو القلة والندرة. ومقابل البذخ هو الاعتدال. فلماذا تخفيف الأشياء وتلطيفها؟ 
الواقع أن الرئيس الفرنسي دأب على هز الرأي العام بتصريحات صادمة من حين لآخر. فقد وصف ذات يوم «الناتو» بأنه ميت دماغياً، وقال إنه سيكون من دواعي سروره «إزعاج» الأشخاص غير الملقَّحين إذا كان ذلك سيساعد على رفع معدل التلقيح في فرنسا. ولكن نبرته ولغته كثيراً ما تثيران الانقسام. فقد اتهم اليسار السياسي ماكرون بأنه منفصل عن هموم الشعب إذا كان يعتقد أن الطبقة العاملة الفرنسية تعيش في رفاهية، ولا سيما في وقت تلتهم فيه أزمة تكلفة المعيشة الرواتب المتواضعة. ومن جانبها، قالت غريمته السياسية مارين لوبين إن سيناريو الأزمة الذي تحدّث عنه ليس نتيجة للحرب فقط، وإنما لسياساته أيضاً. 
بعض وزراء ماكرون سارعوا إلى توضيح تصريحاته بعد ساعات، مشيرين إلى أن الرئيس ماكرون واضح وشفاف. كان ذلك ممارسة في «السيطرة على الأضرار»، ولكن النبرة حُددت، ذلك أن معظم التعليقات التلفزيونية التي أعقبت التصريحات ركزت على مناقشة نوع التضحيات التي ستُطلب من الجمهور. ولكن بهذا المعنى، تتباين لغة ماكرون مع لغة إدارة جو بايدن، التي ترفض تغذية حديث الركود، بل وحتى مع لغة «ليز تراس»، المرشحة الأوفر حظا لتزعم حزب «المحافظين» في بريطانيا، والتي ترفض تصديق أن الركود حتمي ولا مناص منه رغم حقيقة أن «بنك إنجلترا» يتوقعه. هذا علماً بأن المملكة المتحدة تواجه صورة أكثر قتامة من فرنسا. 
في 1979، أعلن الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر ما وصفه البعض بقمة الانهزامية في السياسة. فعلى خلفية التضخم والألم في محطات الوقود، قال كارتر إن أميركا تجتاز «أزمة ثقة» – في المستقبل والأمة – تهدِّد النسيج الاجتماعي للبلاد. وبينما تتصارع أوروبا مع تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا، يبدو خطاب كارتر صالحا لليوم أيضاً. ذلك أن الكثير سيكون رهيناً بقوة تصميم الكتلة الأوروبية على البقاء موحدة والتحلي بالثقة والعزم. 
والواقع أنني لطالما قلتُ إن الكثير من الأوروبيين ما زالوا في حالة إنكار بشأن كيف يمكن لشتاء قاس أن يعيق الاقتصاد. فبالنسبة للأُسر والشركات، يمكن أن يفرض هذا الشتاء اختيارات قاسية: اشترِ الوقود أو اشتر سلعة، ابقِ مشروعك مفتوحاً أو أغلقه. غير أن مواجهة الواقع لا تعني الحتمية. 
وبالنسبة لماكرون، الذي عاش فترة صعبة من الاضطرابات الاجتماعية مع احتجاجات «السترات الصفر» في 2018، يمكن أن يؤدي القول بحتمية الأزمة إلى إضعاف حكومته. فالفرنسيون وضعوا سقفاً لأسعار الطاقة، إذ امتصوا معظم الألم عبر مؤسسة التوزيع المملوكة للدولة «إليكتريسيتي دو فرانس» («كهرباء فرنسا»)، التي أعلنت عن خسارة بقيمة 5 مليارات يورو خلال الستة أشهر الأولى من السنة، وتخفيف الضربة بالنسبة للمستهلكين. ورغم الأزمة، إلا أن فرنسا تسجل اليوم واحداً من أدنى معدلات التضخم في منطقة اليورو. وبهذا المعنى، يمكن القول إن ماكرون يشتري السلم الاجتماعي، تماماً مثلما فعل مع تحفيز «مهما كلف الثمن» خلال إغلاقات الوباء. والحال أن الحكومة لا ينبغي لها أن تبدو كما لو أنها تعلن استسلامها. 
ثم إن الحتمية يمكن أن تُضعف الدعم العام لأوكرانيا أيضاً. فروسيا تريد رؤية أوروبا تصل إلى نقطة الانهيار وتخفف العقوبات. ورغم الضغط الواضح في سوق الطاقة، حيث ترتفع أسعار الغاز والكهرباء إلى مستويات جديدة بشكل أسبوعي تقريباً، إلا أن الاتحاد الأوروبي أشر حتى الآن إلى أنه لن يتراجع. بل إن حتى ماكرون نفسه ألمح مؤخراً إلى أنه ليس هناك مجال للتهاون مع فلاديمير بوتين في الظروف الحالية. فعلى كل حال، الأمر يتعلق بمعركة قيم أيضاً، يقول ماكرون. هذا أمر مشجع، لكن الحفاظ على المعنويات مرتفعة سيصبح أصعب في وقت تصبح فيه الأيام أبرد، وخاصة إذا قيل لنا إن كل شيء مقرر سلفاً من البداية. أما بالنسبة للأوكرانيين، الذين يدفعون ثمناً باهظاً من حيث الدماء والدمار، فلا شك أن هذا لا يخدم مصلحتهم. 
ماكرون تحدث أيضاً عن سلسلة من الأزمات، من الحرب إلى الأحداث المرتبطة بالمناخ إلى مشاكل سلاسل التوريد. وهذه مواضيع مهمة، ولكن هذا الخلط يمكن أن يربك الرأي العام ويقلِّل من مسؤولية بوتين عن الوضع الحالي – فلو لم تندلع الحرب في أوكرانيا، لما كنا نتحدث عن أزمة طاقة بهذا الحجم. أوروبا مقبلة على دخول مياه مجهولة هذا الشتاء. ويجب أن نبقى واضحين بشأن المخاطر، ولكن علينا ألا نذهب إلى العاصفة بفكرة أن كل شيء خُسر سلفاً. 
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست نيوز سينديكيت»